كل من وقف أمام الشخصية الفذة التي خلقها اللـه تعالى . كأفخر وأروع شخصية في الحياة . ثم تأمل في سيرة هذه الشخصية ، انبهر بها أيّما انبهار .
فشخصية النبي محمد (ص) هي اللوحة الجميلة الجليلة التي رسم فيها كل سمو ، وكل جمال تأخذ بمجامع قلوب الناظرين إليها ، سواء كان الناظر مسلماً أو غير مسلم .. وسواء كان ممن يدرك معنى الجمال والكمال ، أولا يفهم ذلك ، فإن هذه اللوحة الباهرة تبلغ من الظهور والوضوح مبلغاً لايدع فرداً نظر إليها إلاّ وجذبته نحوها جذباً .
إن هذه اللوحـــة الرائعة ، التي أريد أن أبدي جانبا منها - بعرضي هذا - هي لوحة تاريخ رسول الإســلام . محمد بن عبد اللـه (ص) ، التي يصعب عليَّ - وأنا أحاول أن أوجزها في صفحات قليلة - أن أقحم كل ما في العالم من مظاهر الجمال والكمال في قطعة صغيرة .
ولذلك فليُعلم أن كل نقص يظهر في هذا الجانب من اللوحة ليس نقص المعبَّر عنه من واقع التاريخ النبويّ ، بل هو لنقص في الريشة التي رسمته ، لانها حاولت تركيز الدنيا في مكان صغير .. وهكذا أعتذر من كل نقص يرى في هذه القطعة من اللوحة .. وأسال اللـه القدير ، ان يتقبل مني هذا اليسير ، وهو المستعان .
مكة المكرّمة .. مدينة حجازية أنشئت منذ عهد إبراهيم الخليل (ع) ، الذي أمره اللـه تعالـــى أن يرحل ببعض ذريّته إلى أرض الحجـــــاز ، ليبني هناك بيتاً لله يعبد فيه ولا يشرك به ، فجاء وعمَّر البيت الذي سُمي الكعبة .
ومن نسل إبراهيم انحدرت قبائل استعربت فيما بعد .. وكانت إحدى هذه القبائل تسمّى بقريش وكانت هذه القبيلة منقسمة إلى عشرة فروع .. وكان لكل فرع سيادته واستقلاله ، كما كان لكل منها نظامه القبلي الخاص الذي يتكوّن من رئيس للقبيلة النافذ الكلمة ، المُطاع الأمر ، ومن سائر أفراد القبيلة التابعين له اتباع الفصيل لأمه .
بنُو هاشم :
وكانت إحدى هذه القبائل العشر تسمى بـ " بني هاشم " كما كانت لفظة " بني أمية " قد وضعت لقبيلة أخرى .
وبنو هاشم ، هي القبيلة التي كان النبي محمد (ص) ينتسب إليها ، حيث إنه كان من أحفاد عبد المطلب الذي كان بدوره من أبناء هاشم ، شيخ العشيرة .
عبد اللـه وآمنة :
كان عبد المطلب ، شيخ بني هاشم ، ورئيسها المطاع . وكان له عشرة أولاد ، أصغرهم وأفضلهم هو عبد اللـه .
وكانت فــي مكــة قبيلــــــة قريبة تعرف ببني زهرة ، منحدرة مـــن نسل زهرة بن كلاب بـــن مُرة .. وكانت امرأة من هذه القبيلة تسمى بـ " آمنة " بنت أحد شرفائها " وهب بن عبد مناف " .
فلمّا شبَّ عبد اللـه ، زوّجه والدُه بآمنة ، وتمَّ الزواج على أسعده .
الميلاد المبارك :
ولم تمض إلاّ مدة يسيرة حتى حملت آمنة بسيّد الـبريّة النبــي محمد (ص) في حين أن عبد الله ، واـــده الكريم ، كان قد سافر في رحلة تجارية إلى الشام . فلما بلغ مدينة " يثـــرب" التــي سميت فيما بعـد بمدينة
الرسول ، توفاه اللـه تعالى ، فولد النبي يتيما .
ورافقــت ميلادَه الكريم حوادث خارقة حيث انخمدت نيـــــران فارس المجوسيـة ، وغاضــت بحيرة ساوة 1 وسقطت شرفات قصر كسرى ملك الفرس ، ونُكّست الأصنام .
عهد الرضاع :
واحتفلت أسرة بني هاشم بمولده المبارك احتفالاً باهراً ، وذلك لأن عبد اللـه كان أحبّ بني هاشم إلى أنفسهم . غير أن المنيّة اختطفته وهو في نُضرة شبابه .. وبقيت منيته ثلمة في قلوبهم وجرحا عميقا في نفوسهم . فكان ميلاد محمد (ص) بلسماً لذلك الجرح ، وسدَّاً لذلك الفراغ ، وذكرى لذلك الشاب العظيم .
وحيث كان من عادة الشرفاء في مكة ان يطلبوا لأبنائهم مراضع من أهل البادية ، لتكون نشأة أولادهم سليمة عن الضعف الجسمي والنفسي ، فقد اتخذ عبد المطلب - شيخ بني هاشــم ، وكفيــل النبــي محمـد - امرأة عربية من أفصح القبائل العربية لساناً وأكرمهم خُلقاً لتكون مرضعةً ومربيةً لـه . تلك كانت " حليمة " المنسوبة إلى قبيلة " بني سعد " التي كانت تسكن أطراف مدينة طائف .
ودرج الطفل المبارك في أحضان القبيلة البدوية التي كانت تنظر إليه نظرة المحبة والود ، لانه كان منشأ البركة والخير فيها ، وأخذ ينمو نمواً سريعاً .
ولما بلغ السادسة من عمره ، رافق أمه آمنة في سفرة ودّية الى يثرب " المدينة " .. وحينما قفلوا راجعين . توفيت آمنة في منزل " الأبواء " تاركة ابنها الوحيد يتيم الأبوين .
ولما بلغ الثامنة توفّي عبد المطلب جد النبي وكفيله ، وترك كفالة محمد (ص) إلى أبي طالب ، كما خوّل إليه سيادة بني هاشم . ووفادة الحاج .
ولم يكن أبو طالب كفيل النبي فقط ، بل كان بمثابة والدٍ حنون يرى في إكرام ابن أخيه " محمد " وفاءً لحق أخيه عبد اللـه ، وإطاعةً لأمر أبيه عبد المطلب ، وأداءً لمسؤولية سيادته على بني هاشم ، وعملا بوظيفته الإنسانية المقدسة في الحياة .
فكان النبي (ص) يذهب معه الى المرافق العامة ، حتى تلك المناطق التي كانت محرّمة على غير السادة والأشراف ، مثل دار الندوة التي كانت بمثابة رئاسة الوزراء في المملكة . وكان لايدخلها إلاّ من كان سيداً في قومه ، ذلك لأن أبا طالب كان حريصا على حياة محمد وتربيته ، حتى أنه لما أراد أبو طالب أن يواصل رحلة قريش التي كانت تتّجه إلى كل من اليمن في الشتاء ، والشام في الصيف لغرض التجارة ، اصطحب معه النبي (ص) وهو فتىً لم يبلغ مبلغاً من العمر يؤهله الى مثل هذه الرحلة المليئة بالأخطار.
وحينما سارت القافلة ، رأوا شيئا غريباً لم يكونوا عرفوه من قبل . فقد رأوا أن سحابة ترفرف على القافلة فَتُظللهم من الشمس . وتُبدِّل الرحلة الخطيرة إلى رحلة سعيدة مريحة .
الراهب بُحيرا :
بالقرب من مدينة بصرى القديمة ، كانت تقوم صومعة يسكن فيها عابدٌ مسيحيٌّ اشتهر في الناس انه صاحب كرامات وتنبؤات صادقة .
ولم يكن هذا الراهــب يعتني بالقوافل التجارية التي كانت تمرّ بمنطقته في سيرها إلى الشام وإلى الحجاز ، لأنه كان مستغنياً عنهم ، في الوقت الذي كانوا محتاجين إليه ..
وكانت قد مَّرت قافلة قريش التجارية بهذه المنطقة مرات عديدة ، ولم يرمقهم هذا الراهب بطرف ولا خطروا عنده ببال .
أما في هذه المـــرة فقد تبدلت الأمور .. قبل أن يصل الركب ، رأى الناس أن الراهب يتطلع إلى الصحراء .. ثم يقلب وجهـــه في السماء كأنه يطلب شيئاً في الأرض وشيئاً في السماء .. فلمــا اقترب الركــب ، لاحظ الناس أن الراهب يراقب سحابة في السماء كأنها تسير على أثر خطوات الخيل والجمال سـواء بسواء . وحينما وصلت قريش إلى رحاب الصومعة دعاهم الراهب إلى الإقامة فيها للعشاء تلــك الليلـــة ، وتعجب الناس كلهم من هذه البادرة ، إلا أن الراهب أزال دهشتهم بتصريح أدلى به على مأدبة العشاء حيث قال : إن إكرامه وإعظامه لقريش إنما هو لوجود هذا الفتى السعيد بينهم ، وبشّرهم بما سوف يكون من أمره من الرسالة المقدسة .
وتكررت هذه البشارة مرة أخرى في الشام ، حيت التقى بالنبيِّ راهب آخر كان يدعي بـ " ابو المويعب " وبشر الناس قائلاً : هذا نبيّ الزمان .
ورجع النبي الى مكة وامتلأ رفاقه في تلك الرحلة إعجاباً به وإعظاماً له . فلما قصّوا على الناس قصصهم في السفرة ، اشتهر أمر النبيّ أيَّما اشتهار .
ثم بَدرت من النبي بوادر طيبة جعلت الناس تنظر إليه نظر التوقير والإحترام . فحينما هدم السيل بنيان الكعبة ، وأرادت قريش ترميمها ، اختلفت في الذي يجب أن يحظى بفخر وَضْع الحجر الأسود في مكانه من ركن الكعبة ، فقد كان لذلك الحجر شأن عظيم في نظر قريش وسائر العرب . وكاد الزعماء في قريش يحارب بعضهم بعضا ، بيد أنَّ حكماءها قالوا : لنحتكم إلى أول داخل من هذا الباب ، فرضي الجميع بذلك .
ووقف الناس ينتظرون أول الداخلين من ذلك الباب ، فإذا بطلعة النبيِّ محمدٍ قد أشرقت عليهم ، وإذا صوت واحد يقول : هذا الأمين قد رضينا به . فعرف النبيُّ ماجرى بينهم ، فأمر بأن يؤتى بثوب ، ثم أمر بأن يأخذ كل زعيمٍ بطرف منه ثم وضع الحجر فيه وأمر برفعه حتى إذا تساوى مع الحائط أخذه النبيُّ ووضعه في موقعه . وهكذا حفظ النبي بهذا الحكم العادل المنصف حقوق القبائل كلها ، كما أنه فاز بفخر تركيز الحجر بنفسه ، ورضيت به قريش صاحب فخر ومجد بالغين .
وكانت الرذيلة والأخلاق السيئة متفشّية بين الشباب بصورة فاحشة ، حتى أنه لم يكن في العرب شاب لم يتدنس بسيئاتها إلاّ الشاذ النادر .
ومع كل ذلك فلم يسجل العرب المعاصرون للنبي والمراقبون لأيام شبابه ، أي ميل إلى الباطل أو أي مشاركة في لهو أو لغو ، بل العكس فقد لاحظ الناسُ في النبيِّ (ص) كلَّ معاني الشرف والنبل ، وكل سمات الإنسانية والصلاح .
والمعروف أنه كان قد تم الإقتراح على شرفاء مكة وساداتها ، أن يكوّنوا لجنة تدافع عن حقوق الضعفاء ، وتراعي أمورهم . فاستجابت النفوس الطيبة إليه ، وأقسموا قسمـــاً شرفيّاً بذلك ؛ وسُمِّيَ بـ " حلف الفضــول " وســواءً كان النبي هو المقترح أو غيره ، فإنه قد حضره وقد أشــاد به بعــد الرسالة حيث قـــال : " لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد اللـه بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت " .
الأمين .. الحكيم :
وحيث عرف أهل مكة فيه هذا السموّ الخُلقي والنبل المعنوي ، فقد ائتمنوه على أمورهم ، وسلَّموا إليه ودائعهم ، كما أفشوا إليه أسرارهم ، واستشاروه في قضاياهم الخاصة .. فكان يعرف بينهم بالأمين وبالصادق الحكيم .
أما ما يخصّ أمر كفيله أبي طالب ، فقد كان النبي وفياً له ، بّراً به . فلقد كان أبو طالب فقيراً معيلاً ، حيث إنَّه كان سيداً يتحمل مسؤوليات السيادة الخطيرة التي كانت تحتاج إلى المال قبل كل شيء ، وكانت موارده قليلة جدّاً ، فلذلك أخذ النبي يفكر منذ صباه في طريقة للعيش يخفف بها مسؤولية الكفالة عن عمه أبي طالب .
فاشتغل برعي الغنم شـــــأن صبيان العرب في مكة ، بفارق أنه كان يتأهل بذلك لمسؤولية الرسالـة ايضــاً ، وذلك أنه ما بعث اللـه نبيّاً إلاّ وقد كان راعياً في يوم من أيام حياته !
ومرّت الأيام ، وشبّ النبي ، ولم تعد هذه الطريقة لائقة به في مثل سنّه ، فأخذ يمارس التجارة . ثم سعى عمه في إرساله بتجارة إلى الشام تخص السيدة خديجة بنت خويلد ، المرأة الثرية التي كان يتاجر بأموالها كثيرون من سكان مكة ، على ان يكون الربح بينها وبينهم ، فتمَّ له ذلك .
وحينمــا ذهب النبــي (ص) في هذه الرحلـــة التجارية ، كان من أوفق التجارات التــي تمــت بمـــال خديجـــة
إلى ذلك الحين . وقد كان ظهر من النبي (ص) في تلك الرحلة معاجز كثيرة ، لما قُصت على خديجة رغبت بالزواج بالنبيّ ، فقبل النبيّ بذلك ، ووافق عليه عمه أبو طالب . فتم الزواج السعيد في السنة الخامسة والعشرين من عمر النبيّ الشريف . وكان زواجه تحولاً في حياته الإجتماعية . حيث لم يعد الآن صاحب بيت وأولاد فقط بل وصاحب ثروة كبيرة ضخمة أيضاً .
ورزق النبيَّ من خديجة خمسة أولاد هم ( زينب ) و ( أم كلثوم ) و ( فاطمة ) و ( رقيّة ) و ( القاسم ، أو الطاهر ) عليهم السلام .
لقد كان هذا الزواج أوفق زواج يعرف في صدر الإسلام . أما بالنسبة إلى خديجة فإنها أصبحت به : زوجة النبيّ ، والأم الكبرى للمسلمين . بعد أن اتَّصل بها أشرف الخلائق أجمعين . وأمّا بالنسبة للنبيّ (ص) فقد كانت خديجة أول من آمن به ، ثم نصرته وبذلت ما لديها من المال والجاه والحكمة في سبيله وفي سبيل نشر دعوته المقدسة . ولم يزل النبيّ يذكر لها ذلك حتى آخر لحظة من حياته . وقد كانت وفاة خديجة تعادل عند النبيِّ (ص) موت عمه أبي طالب ، فلقد تأثر بهما تأثراً بالغاً . ثم فقدهما في عام واحد حينما كان أحوج ما يكون إليهما معاً
فشخصية النبي محمد (ص) هي اللوحة الجميلة الجليلة التي رسم فيها كل سمو ، وكل جمال تأخذ بمجامع قلوب الناظرين إليها ، سواء كان الناظر مسلماً أو غير مسلم .. وسواء كان ممن يدرك معنى الجمال والكمال ، أولا يفهم ذلك ، فإن هذه اللوحة الباهرة تبلغ من الظهور والوضوح مبلغاً لايدع فرداً نظر إليها إلاّ وجذبته نحوها جذباً .
إن هذه اللوحـــة الرائعة ، التي أريد أن أبدي جانبا منها - بعرضي هذا - هي لوحة تاريخ رسول الإســلام . محمد بن عبد اللـه (ص) ، التي يصعب عليَّ - وأنا أحاول أن أوجزها في صفحات قليلة - أن أقحم كل ما في العالم من مظاهر الجمال والكمال في قطعة صغيرة .
ولذلك فليُعلم أن كل نقص يظهر في هذا الجانب من اللوحة ليس نقص المعبَّر عنه من واقع التاريخ النبويّ ، بل هو لنقص في الريشة التي رسمته ، لانها حاولت تركيز الدنيا في مكان صغير .. وهكذا أعتذر من كل نقص يرى في هذه القطعة من اللوحة .. وأسال اللـه القدير ، ان يتقبل مني هذا اليسير ، وهو المستعان .
مكة المكرّمة .. مدينة حجازية أنشئت منذ عهد إبراهيم الخليل (ع) ، الذي أمره اللـه تعالـــى أن يرحل ببعض ذريّته إلى أرض الحجـــــاز ، ليبني هناك بيتاً لله يعبد فيه ولا يشرك به ، فجاء وعمَّر البيت الذي سُمي الكعبة .
ومن نسل إبراهيم انحدرت قبائل استعربت فيما بعد .. وكانت إحدى هذه القبائل تسمّى بقريش وكانت هذه القبيلة منقسمة إلى عشرة فروع .. وكان لكل فرع سيادته واستقلاله ، كما كان لكل منها نظامه القبلي الخاص الذي يتكوّن من رئيس للقبيلة النافذ الكلمة ، المُطاع الأمر ، ومن سائر أفراد القبيلة التابعين له اتباع الفصيل لأمه .
بنُو هاشم :
وكانت إحدى هذه القبائل العشر تسمى بـ " بني هاشم " كما كانت لفظة " بني أمية " قد وضعت لقبيلة أخرى .
وبنو هاشم ، هي القبيلة التي كان النبي محمد (ص) ينتسب إليها ، حيث إنه كان من أحفاد عبد المطلب الذي كان بدوره من أبناء هاشم ، شيخ العشيرة .
عبد اللـه وآمنة :
كان عبد المطلب ، شيخ بني هاشم ، ورئيسها المطاع . وكان له عشرة أولاد ، أصغرهم وأفضلهم هو عبد اللـه .
وكانت فــي مكــة قبيلــــــة قريبة تعرف ببني زهرة ، منحدرة مـــن نسل زهرة بن كلاب بـــن مُرة .. وكانت امرأة من هذه القبيلة تسمى بـ " آمنة " بنت أحد شرفائها " وهب بن عبد مناف " .
فلمّا شبَّ عبد اللـه ، زوّجه والدُه بآمنة ، وتمَّ الزواج على أسعده .
الميلاد المبارك :
ولم تمض إلاّ مدة يسيرة حتى حملت آمنة بسيّد الـبريّة النبــي محمد (ص) في حين أن عبد الله ، واـــده الكريم ، كان قد سافر في رحلة تجارية إلى الشام . فلما بلغ مدينة " يثـــرب" التــي سميت فيما بعـد بمدينة
الرسول ، توفاه اللـه تعالى ، فولد النبي يتيما .
ورافقــت ميلادَه الكريم حوادث خارقة حيث انخمدت نيـــــران فارس المجوسيـة ، وغاضــت بحيرة ساوة 1 وسقطت شرفات قصر كسرى ملك الفرس ، ونُكّست الأصنام .
عهد الرضاع :
واحتفلت أسرة بني هاشم بمولده المبارك احتفالاً باهراً ، وذلك لأن عبد اللـه كان أحبّ بني هاشم إلى أنفسهم . غير أن المنيّة اختطفته وهو في نُضرة شبابه .. وبقيت منيته ثلمة في قلوبهم وجرحا عميقا في نفوسهم . فكان ميلاد محمد (ص) بلسماً لذلك الجرح ، وسدَّاً لذلك الفراغ ، وذكرى لذلك الشاب العظيم .
وحيث كان من عادة الشرفاء في مكة ان يطلبوا لأبنائهم مراضع من أهل البادية ، لتكون نشأة أولادهم سليمة عن الضعف الجسمي والنفسي ، فقد اتخذ عبد المطلب - شيخ بني هاشــم ، وكفيــل النبــي محمـد - امرأة عربية من أفصح القبائل العربية لساناً وأكرمهم خُلقاً لتكون مرضعةً ومربيةً لـه . تلك كانت " حليمة " المنسوبة إلى قبيلة " بني سعد " التي كانت تسكن أطراف مدينة طائف .
ودرج الطفل المبارك في أحضان القبيلة البدوية التي كانت تنظر إليه نظرة المحبة والود ، لانه كان منشأ البركة والخير فيها ، وأخذ ينمو نمواً سريعاً .
ولما بلغ السادسة من عمره ، رافق أمه آمنة في سفرة ودّية الى يثرب " المدينة " .. وحينما قفلوا راجعين . توفيت آمنة في منزل " الأبواء " تاركة ابنها الوحيد يتيم الأبوين .
ولما بلغ الثامنة توفّي عبد المطلب جد النبي وكفيله ، وترك كفالة محمد (ص) إلى أبي طالب ، كما خوّل إليه سيادة بني هاشم . ووفادة الحاج .
ولم يكن أبو طالب كفيل النبي فقط ، بل كان بمثابة والدٍ حنون يرى في إكرام ابن أخيه " محمد " وفاءً لحق أخيه عبد اللـه ، وإطاعةً لأمر أبيه عبد المطلب ، وأداءً لمسؤولية سيادته على بني هاشم ، وعملا بوظيفته الإنسانية المقدسة في الحياة .
فكان النبي (ص) يذهب معه الى المرافق العامة ، حتى تلك المناطق التي كانت محرّمة على غير السادة والأشراف ، مثل دار الندوة التي كانت بمثابة رئاسة الوزراء في المملكة . وكان لايدخلها إلاّ من كان سيداً في قومه ، ذلك لأن أبا طالب كان حريصا على حياة محمد وتربيته ، حتى أنه لما أراد أبو طالب أن يواصل رحلة قريش التي كانت تتّجه إلى كل من اليمن في الشتاء ، والشام في الصيف لغرض التجارة ، اصطحب معه النبي (ص) وهو فتىً لم يبلغ مبلغاً من العمر يؤهله الى مثل هذه الرحلة المليئة بالأخطار.
وحينما سارت القافلة ، رأوا شيئا غريباً لم يكونوا عرفوه من قبل . فقد رأوا أن سحابة ترفرف على القافلة فَتُظللهم من الشمس . وتُبدِّل الرحلة الخطيرة إلى رحلة سعيدة مريحة .
الراهب بُحيرا :
بالقرب من مدينة بصرى القديمة ، كانت تقوم صومعة يسكن فيها عابدٌ مسيحيٌّ اشتهر في الناس انه صاحب كرامات وتنبؤات صادقة .
ولم يكن هذا الراهــب يعتني بالقوافل التجارية التي كانت تمرّ بمنطقته في سيرها إلى الشام وإلى الحجاز ، لأنه كان مستغنياً عنهم ، في الوقت الذي كانوا محتاجين إليه ..
وكانت قد مَّرت قافلة قريش التجارية بهذه المنطقة مرات عديدة ، ولم يرمقهم هذا الراهب بطرف ولا خطروا عنده ببال .
أما في هذه المـــرة فقد تبدلت الأمور .. قبل أن يصل الركب ، رأى الناس أن الراهب يتطلع إلى الصحراء .. ثم يقلب وجهـــه في السماء كأنه يطلب شيئاً في الأرض وشيئاً في السماء .. فلمــا اقترب الركــب ، لاحظ الناس أن الراهب يراقب سحابة في السماء كأنها تسير على أثر خطوات الخيل والجمال سـواء بسواء . وحينما وصلت قريش إلى رحاب الصومعة دعاهم الراهب إلى الإقامة فيها للعشاء تلــك الليلـــة ، وتعجب الناس كلهم من هذه البادرة ، إلا أن الراهب أزال دهشتهم بتصريح أدلى به على مأدبة العشاء حيث قال : إن إكرامه وإعظامه لقريش إنما هو لوجود هذا الفتى السعيد بينهم ، وبشّرهم بما سوف يكون من أمره من الرسالة المقدسة .
وتكررت هذه البشارة مرة أخرى في الشام ، حيت التقى بالنبيِّ راهب آخر كان يدعي بـ " ابو المويعب " وبشر الناس قائلاً : هذا نبيّ الزمان .
ورجع النبي الى مكة وامتلأ رفاقه في تلك الرحلة إعجاباً به وإعظاماً له . فلما قصّوا على الناس قصصهم في السفرة ، اشتهر أمر النبيّ أيَّما اشتهار .
ثم بَدرت من النبي بوادر طيبة جعلت الناس تنظر إليه نظر التوقير والإحترام . فحينما هدم السيل بنيان الكعبة ، وأرادت قريش ترميمها ، اختلفت في الذي يجب أن يحظى بفخر وَضْع الحجر الأسود في مكانه من ركن الكعبة ، فقد كان لذلك الحجر شأن عظيم في نظر قريش وسائر العرب . وكاد الزعماء في قريش يحارب بعضهم بعضا ، بيد أنَّ حكماءها قالوا : لنحتكم إلى أول داخل من هذا الباب ، فرضي الجميع بذلك .
ووقف الناس ينتظرون أول الداخلين من ذلك الباب ، فإذا بطلعة النبيِّ محمدٍ قد أشرقت عليهم ، وإذا صوت واحد يقول : هذا الأمين قد رضينا به . فعرف النبيُّ ماجرى بينهم ، فأمر بأن يؤتى بثوب ، ثم أمر بأن يأخذ كل زعيمٍ بطرف منه ثم وضع الحجر فيه وأمر برفعه حتى إذا تساوى مع الحائط أخذه النبيُّ ووضعه في موقعه . وهكذا حفظ النبي بهذا الحكم العادل المنصف حقوق القبائل كلها ، كما أنه فاز بفخر تركيز الحجر بنفسه ، ورضيت به قريش صاحب فخر ومجد بالغين .
وكانت الرذيلة والأخلاق السيئة متفشّية بين الشباب بصورة فاحشة ، حتى أنه لم يكن في العرب شاب لم يتدنس بسيئاتها إلاّ الشاذ النادر .
ومع كل ذلك فلم يسجل العرب المعاصرون للنبي والمراقبون لأيام شبابه ، أي ميل إلى الباطل أو أي مشاركة في لهو أو لغو ، بل العكس فقد لاحظ الناسُ في النبيِّ (ص) كلَّ معاني الشرف والنبل ، وكل سمات الإنسانية والصلاح .
والمعروف أنه كان قد تم الإقتراح على شرفاء مكة وساداتها ، أن يكوّنوا لجنة تدافع عن حقوق الضعفاء ، وتراعي أمورهم . فاستجابت النفوس الطيبة إليه ، وأقسموا قسمـــاً شرفيّاً بذلك ؛ وسُمِّيَ بـ " حلف الفضــول " وســواءً كان النبي هو المقترح أو غيره ، فإنه قد حضره وقد أشــاد به بعــد الرسالة حيث قـــال : " لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد اللـه بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت " .
الأمين .. الحكيم :
وحيث عرف أهل مكة فيه هذا السموّ الخُلقي والنبل المعنوي ، فقد ائتمنوه على أمورهم ، وسلَّموا إليه ودائعهم ، كما أفشوا إليه أسرارهم ، واستشاروه في قضاياهم الخاصة .. فكان يعرف بينهم بالأمين وبالصادق الحكيم .
أما ما يخصّ أمر كفيله أبي طالب ، فقد كان النبي وفياً له ، بّراً به . فلقد كان أبو طالب فقيراً معيلاً ، حيث إنَّه كان سيداً يتحمل مسؤوليات السيادة الخطيرة التي كانت تحتاج إلى المال قبل كل شيء ، وكانت موارده قليلة جدّاً ، فلذلك أخذ النبي يفكر منذ صباه في طريقة للعيش يخفف بها مسؤولية الكفالة عن عمه أبي طالب .
فاشتغل برعي الغنم شـــــأن صبيان العرب في مكة ، بفارق أنه كان يتأهل بذلك لمسؤولية الرسالـة ايضــاً ، وذلك أنه ما بعث اللـه نبيّاً إلاّ وقد كان راعياً في يوم من أيام حياته !
ومرّت الأيام ، وشبّ النبي ، ولم تعد هذه الطريقة لائقة به في مثل سنّه ، فأخذ يمارس التجارة . ثم سعى عمه في إرساله بتجارة إلى الشام تخص السيدة خديجة بنت خويلد ، المرأة الثرية التي كان يتاجر بأموالها كثيرون من سكان مكة ، على ان يكون الربح بينها وبينهم ، فتمَّ له ذلك .
وحينمــا ذهب النبــي (ص) في هذه الرحلـــة التجارية ، كان من أوفق التجارات التــي تمــت بمـــال خديجـــة
إلى ذلك الحين . وقد كان ظهر من النبي (ص) في تلك الرحلة معاجز كثيرة ، لما قُصت على خديجة رغبت بالزواج بالنبيّ ، فقبل النبيّ بذلك ، ووافق عليه عمه أبو طالب . فتم الزواج السعيد في السنة الخامسة والعشرين من عمر النبيّ الشريف . وكان زواجه تحولاً في حياته الإجتماعية . حيث لم يعد الآن صاحب بيت وأولاد فقط بل وصاحب ثروة كبيرة ضخمة أيضاً .
ورزق النبيَّ من خديجة خمسة أولاد هم ( زينب ) و ( أم كلثوم ) و ( فاطمة ) و ( رقيّة ) و ( القاسم ، أو الطاهر ) عليهم السلام .
لقد كان هذا الزواج أوفق زواج يعرف في صدر الإسلام . أما بالنسبة إلى خديجة فإنها أصبحت به : زوجة النبيّ ، والأم الكبرى للمسلمين . بعد أن اتَّصل بها أشرف الخلائق أجمعين . وأمّا بالنسبة للنبيّ (ص) فقد كانت خديجة أول من آمن به ، ثم نصرته وبذلت ما لديها من المال والجاه والحكمة في سبيله وفي سبيل نشر دعوته المقدسة . ولم يزل النبيّ يذكر لها ذلك حتى آخر لحظة من حياته . وقد كانت وفاة خديجة تعادل عند النبيِّ (ص) موت عمه أبي طالب ، فلقد تأثر بهما تأثراً بالغاً . ثم فقدهما في عام واحد حينما كان أحوج ما يكون إليهما معاً